15 مايو 2025

زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القاهرة حملت معها هواجس سياسية واستراتيجية وثقافية، وذلك وسط تصاعد أزمات داخلية وخارجية تحاصر كلا من باريس والقاهرة.

جولة الرئيس الفرنسي لم تقتصر على اللقاءات الرسمية وتوقيع الاتفاقيات، بل ظهرت ضمن صورة تحمل شكلا من التواصل الخاص بين البلدين، فمكرون زار العريش وقام بجولة سياحية مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في حي خان الخليلي، ونقلت رسائل تتجاوز الطابع البروتوكولي التقليدي، فخلف المشهد الاحتفالي العام، تقف حسابات أكثر تعقيدا؛ تبدأ من فقدان فرنسا لنفوذها في مستعمراتها السابقة، إلى انهيار الدور الأوروبي في الشرق الأوسط، إلى أزمة غزة وملف التهجير، حيث بدت زيارة ماكرون محاولة لاستعادة المبادرة في خريطة سياسية متحركة تعيد رسم التحالفات.

زيارة بثلاثة أبعاد

تم الإعلان خلال الزيارة عن رفع العلاقات المصرية الفرنسية إلى مستوى “الشراكة الاستراتيجية”، لكن هذه الصيغة، رغم طابعها الدبلوماسي المتفائل، تخفي وراءها واقعاقلقا، لكلا الزعيمين، فسياسيا أظهرت الزيارة تقارباً علنياً بين باريس والقاهرة في ملف غزة، وعقد الرئيسان، إلى جانب العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، قمة ثلاثية شددت على رفض التهجير، ودعم خطة إعادة الإعمار المصرية، والدفع باتجاه هدنة إنسانية، في وقت كانت فيه إدارة ترامب تستعد لاستقبال نتنياهو في البيت الأبيض وتروّج لمشروع تحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، وبذلك فإن القاهرة قدمت عبر هذا اللقاء منصة لموقف أوروبي متباين عن  واشنطن وتل أبيب.

أما على المستوى الاستراتيجي فكان سعي فرنسا واضحا إلى تعزيز نفوذها في منطقة تبتعد عنها الولايات المتحدة، أو تديرها عبر مقاربات أحادية منحازة لإسرائيل، ولكن هذا الأمر يأتي في ظل فقدان باريس لمواقعها في غرب ووسط إفريقيا من مالي إلى النيجر، وضعف تأثيرها في الملف الأوكراني، وتوطيد العلاقة مع مصر يشكل حلا نظرا لما تملكه القاهرة من موقع جيوسياسي، وتمثل مدخلا طبيعياً لإعادة التموضع الفرنسي في الشرق الأوسط.

والبعد الثالث لزيارة ماكرون كان حضاريا، لم تكن جولته مع السيسي وسط القاهرة القديم، وزيارة المتحف الكبير وخان الخليلي مجرد لمسة سياحية، بل كانت خطابا ثقافيا حول “العمق الحضاري”، في محاولة لإعادة إنتاج صورة فرنسا كقوة ناعمة ذات تاريخ ثقافي مشترك مع مصر، وهذا البعد، وإن بدا رمزياً، جاء في وقت تتآكل فيه أدوات القوة التقليدية لباريس في السياسة الخارجية.

رئيسان وأهداف مختلفة

أتت الزيارة في وقت يواجه فيه ماكرون أزمة داخلية خانقة، ففرنسا باتت الدولة الأعلى مديونية في الاتحاد الأوروبي، وذلك بدين عام تجاوز 3.3 تريليون يورو، كما أن نفوذ ماكرون السياسي تراجع بشدة، خاصة بعد الاحتجاجات المتواصلة على إصلاحاته الاقتصادية، والانقسامات العميقة في المشهد الحزبي الفرنسي.

على الجانب المصري، يقود السيسي خططا للتعامل مع ديون مصر الخارجية التي تلامس 160 مليار دولار، كما تعاني مصر من تضخم قياسي ونقص حاد في العملة الأجنبية،ويحاول السيسي عبر السياسات الحكومة العمل على إيجاد تحسن اقتصادي ملموس، وفي نفس الوقت فإن ازدياد الضغوط الأميركية على القاهرة للقبول بخطط تهجير فلسطينيي غزة، حمل الرئيس السيسي نحو مسارات دبلوماسية جديدة تجسدت في نتائج زيارة ماكرون للقاهرة، فالأزمات الفرنسية المتوازية دفعت للحديث عن زيارة ماكرون إلى مصر كنوع من البحث عن نفوذ مفقود، أو حتى لتسويق صفقات اقتصادية وعسكرية تنقذ الصناعات الفرنسية المتعثرة، بينما يذهب بعض المحللين أن القمة الثلاثية في القاهرة استطاعت تقوية موقف السيسي عربياً ودولياً في ظل الضغوط الأمريكية المتزايدة.

رسائل سياسية في ثوب إنساني

من جولة السيسي وماكرون في شوارع القاهرة القديمة، إلى زيارة مستشفى العريش العام ولقاء الجرحى الفلسطينيين، لم تكن تحركات ماكرون عشوائية، إنما تجسيد لدبلوماسية رمزية تعتمد على الحضور الميداني لإرسال رسائل سياسية، فزيارة العريش، قرب معبر رفح، بدت رسالة أوروبية صريحة إلى إسرائيل: لا لتهجير الفلسطينيين، كما أنها إعادة تأكيد على الدور المصري في غزة، أما الرسالة الثانية فتم توجيهها إلى الداخل الفرنسي والأوروبي، وفحواها أن فرنسا ما زالت لاعبا مؤثرا في الأزمات الدولية، وقادرة على الوساطة والانخراط الميداني، رغم تراجع موقعها في إفريقيا وأوروبا الشرقية، وكانت الرسالة الثالثة إلى واشنطن؛ فالاتصال الثلاثي مع ترامب خلال القمة الثلاثية، والبيان المشترك المؤيد لحل الدولتين، كانا تحديا ناعما لإدارة ترامب التي تقف مع إسرائيل دون قيد أو شرط.

لكن خلف كل الصور التي رافقت الزيارة يتم طرح تساؤلات مشروعة حول جدوى هذا الحراك، فهل تسعى فرنسا إلى تحقيق مصالح اقتصادية على حساب المواقف السياسية؟ فالاتفاقيات التي وُقعت خلال الزيارة تجاوزت 7 مليارات يورو، وشملت قطاعات استراتيجية كالنقل والطاقة والتعليم، كما جرى الحديث عن دعم إضافي بقيمة 260 مليون يورو، إلى جانب تأكيد باريس دعمها لمفاوضات مصر مع صندوق النقد والمفوضية الأوروبية.

من جهتها، ترى بعض التحليلات أن القاهرة تعزز شرعيتها عبر توسيع الخيارات الدبلوماسية، وتمنح فرنسا امتيازات اقتصادية مقابل دعم سياسي يتيح لها هامشا سياسيا مرنا، كما تحمل الزيارة أيضا عودة نحو فكرة الاتحاد المتوسطي، فوسط توتر العلاقات عبر الأطلسي، وانكفاء الولايات المتحدة عن الشراكات الأوروبية التقليدية، يرى البعض في لقاءات ماكرون خلال رحلته إلى مصر محاولة لتأسيس “محور متوسطي” يجمع الدول العربية بأوروبا بعيداً عن الاستقطابات الأميركية الصينية، وهذا التصور، رغم طموحه، ما زال يفتقر إلى قاعدة صلبة، فباريس تعاني من ضعف داخلي، وتراجع نفوذ دولي، وعلى الجانب المصري فإن القاهرة لها أولوياتها الخاصة ومن الصعب أن تقبل لعب دور القاطرة للدور الذي يريده الرئيس ماكرون، لكن التنسيق المصري الفرنسي في غزة، والرهان على البعد الثقافي والحضاري، يفتح نافذة لإعادة تشكيل علاقة ندية، يتجاوز فيها الطرفان الدور التابع للمشاريع الخارجية.

بعد انتهاء الزيارة كتب ماكرون على منصة إكس: “أغادر مصر بعد 3 أيام مؤثرة… رأيت فيها نبض القلوب”، وخلف هذه الكلمات الشاعرية، تبقى أسئلة معلقة فالسياسة بطبيعتها تحمل المصالح وليس العواطف، وبقيت الأسئلة مفتوحة حول كون الزيارة عرضاً دبلوماسياً منقوص التأثير، وهي بالتأكيد لم تكن لحظة فارقة تعيد رسم المشهد في المنطقة، فباريس لم تعد تمتلك القدرة على خلق مسار بديل في الشرق الأوسط، وماكرون يبحث فقط عن دور بعد فقدان الساحة الإفريقية.

بقلم: مازن بلال

توقيف نجل القرضاوي في لبنان بناءً على مذكرة إنتربول دولية

اقرأ المزيد