تبدو مسألة السفارات الليبية في الخارج صورة لإدارة الدولة التي لا تملك استراتيجية واضحة لنشر البعثات الدبلوماسية، فإضافة للتكاليف المالية هناك “الجدوى السياسية” لهذا التواجد الدبلوماسي في بلد تعاني يمن أزمات سياسية.
في مقاربة بسيطة بين ليبيا وباقي دول العالم فإن بعض الدول الكبرى تتراجع عن التوسع الدبلوماسي لأسباب استراتيجية ومالية، بينما تُصر ليبيا رغم هشاشتها السياسية والاقتصادية، على الاحتفاظ بشبكة سفارات مفرطة الانتشار، ومكلفة ولا تملك في كثير من الحالات أدوارا أو غايات سياسية، وهو ما دفع العديد من السياسيين والإعلاميين الليبيين إلى طرح سؤال جوهري: هل هناك رؤية سياسية لاستمرار تواجد بعثات دبلوماسية في العديد من الدول التي لا تشكل جزء من الاهتمام السياسي الليبي؟ ولماذا لا تقلص ليبيا عدد سفاراتها؟
فوضى دبلوماسية مكلفة
تمتلك ليبيا اليوم أكثر من 140 بعثة دبلوماسية بين سفارات وقنصليات ومندوبيات، وحسب إحصاءات مصرف ليبيا المركزي، بلغ الإنفاق على السفارات في عام 2024 وحده أكثر من 3.3 مليار دينار، بينها 2 مليار صرفت فقط على الرواتب، وكمثال صارخ على هذا التبذير هو السفارة الليبية في أنقرة، التي أنفقت وحدها 318.8 مليون دينار، في حين كلفت القنصلية في إسطنبول 29 مليونا إضافيا، ولا تتناسب هذه أرقام مع واقع دولة لا تزال تواجه انهيارا في الخدمات، وانقسامات سياسية، وغيابا للبنية التحتية.
ومن أكثر السفارات المثيرة للجدل سفارة ليبيا في موسكو، فالسفير الحالي، أحمد عبدالله المغراوي، نال شهرة لظهوره المتكرر في أماكن السهر بالعاصمة الروسية، فبدلا من الانشغال بملفات ثقيلة مثل العلاقات الاقتصادية المتعثرة، فإن التحرك الدبلوماسي للسفير لا يقوم على آلية واضحة لإعادة بناء العلاقة بين البلدين، ومنذ تسلمه مهامه في ديسمبر 2021، لم تسجل السفارة إنجازات دبلوماسية تذكر، في وقت تمر فيه العلاقات الليبية الروسية بمرحلة حرجة.
والسفير الروسي في ليبيا ليس حالة فردية، فهناك سلسلة من الفضائح ضربت بعثات ليبية أخرى، وتم حبس القائم بأعمال بعثة الأرجنتين، ورئيسة بعثة بلجيكا، ومسؤولين ماليين في كازاخستان وأوكرانيا بتهم تتعلق بالفساد، واستغلال المنصب، والتزوير، فانتشار السفارات وفق هذه الصورة لا يؤشر على أن الخارجية الليبية في حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية تملك خطة دبلوماسية لتوزع وعمل السفارات في الخارج، فالتعيينات الدبلوماسية في السفارات تبدو وكأنها منح تقدم للمقربين من حكومة عبد الحميد الدبيبة.
ليبيا ليست وحدها
الدعوة لتقليص عدد السفارات ليست اختراعا ليبيا، فالولايات المتحدة، وهي قوة دبلوماسية كبرى، قررت في 2025 تقليص 27 بعثة بينها سفارات في أوروبا وإفريقيا، وإدارة ترامب بررت القرار بأنه جزء من خطة ترشيد واسعة، تهدف لخفض الإنفاق بنسبة 20%، كما أن بعض الدول مثل أوكرانيا وتركيا لجأت لتقليص بعثاتها في ظل أزمات اقتصادية وأولويات أمنية.
فتركيا مثلا أغلقت بعض قنصلياتها في أوروبا الغربية لخفض التكاليف، وركزت على تعزيز وجودها في مناطق ذات أولوية سياسية واقتصادية، فهناك ضرورات سياسية ومالية دفعت نحو إعادة رسم التوزع الدبلوماسي، وتكثيف الجهود نحو السفارات التي تمثل مصالح حيوية، فالوجود الدبلوماسي ليس غاية بحد ذاته بل جزء من استراتيجية أي دولة لتشكيل علاقاتها في الخارج بما يتناسب وواقعها الداخلي، وهذا الأمر لا يبدو موجودا في عمل الخارجية الليبية التي تعتبر أن سفاراتها في الخارج جزءا من المصالح الداخلية الضيقة.
إن معظم السفارات الليبية لا تُقدّم خدمات ملموسة للمواطنين ولا للدولة، فبعضها يوجد في دول لا تربطها بليبيا أي علاقات تجارية أو سياسية معتبرة، أو حتى جالية تستحق التمثيل، مثل سفارة ليبيا في نيكاراغوا أو ساوتومي وبرينسيبي كأمثلة على سفارات لا تخدم مصالح الليبيين بشكل فعال، حيث يُطرح سؤال: “في من تخدم هذه السفارات؟”، وأشارت تقارير لديوان المحاسبة الليبي إلى أن كثيرا من السفارات تضم بين 100 إلى 150 موظفا، دون إنتاج فعلي يُبرر ذلك، والأسوأ أن تعيينات البعثات الخارجية غالبا ما يتم عبر “المحسوبية”، حيث يحصل أقارب مسؤولين وقادة ميليشيات على مناصب دبلوماسية، ما يضرب الكفاءة في الصميم.
تخفيض التمثيل الدبلوماسي بذكاء
إن تخفيض عدد البعثات الدبلوماسية يشكل خطوة لا تحتاج إلى جهد إداري كبير، فعبر خطة عقلانية يمكن الوصول إلى توازن في تواجد السفارات الليبية في الخارج، فهناك خارطة سياسية ضرورية تبدأ بالتقييم الاستراتيجي وتحديد الدول التي تُمثل قيمة مضافة لليبيا سياسيا واقتصاديا، والإبقاء على السفارات فيها (مثل تركيا، روسيا، فرنسا، أمريكا)، في المقابل يمكن القيام بعملية دمج إقليمي تعيين سفارة واحدة تغطي أكثر من دولة، حيث يمكن لسفارة ليبيا في السعودية على سبيل المثال أن تخدم عدة دول خليجية، كما يمكن إغلاق البعثات غير فعّالةخاصة في أمريكا اللاتينية ودول لا توجد فيها جالية ليبية أو علاقات قوية.
وبالتأكيد فإن أي خطة لتقليص عدد السفارات لن تمر دون مقاومة، فهناك شبكة من المنتفعين في الغرب الليبي مرتبطين مباشرة بحكومة طرابلس، والعديد من السفراء والمسؤولين لهم علاقات قوية مع جهات داخل السلطة التنفيذية أو القوى المسلحة، وسيدافعون عن امتيازاتهم بشراسة، وهناك أيضا بعد رمزي للسفارات يعتبرها البعض “عنوانا للسيادة، رغم أنها لا تحقق مصالح فعلية على الأرض.
في المقياس السياسي فإن عدد السفارات لا يعبر عنالكفاءة الدبلوماسية، فقدرة البعثات الدبلوماسية على تحقيق المصالح الوطنية هو الأساس، وليبيا وفق أبسط المعايير السياسية ليست بحاجة لـ140 علَما يرفرف في العواصم العالمية، بل إلى عشرة سفراء قادرين على عقد اتفاقيات، وإعادة الأموال المجمدة، وتأمين الاستثمار، أو حتى فقط حماية المواطنين في المهجر، وهذا الأمر لا يبدو أنه من أولويات وزارة الخارجية في حكومة الدبيبة، فالسفارات الليبية وفق صورتها الحالية تُمثل نزيفا اقتصاديا، وأداة سياسية لترضية الداخل، أكثر من كونها أداة لتعزيز صورة ليبيا أو مصالحها في الخارج.
الواقع الليبي الحالي لا يبدو مناسبا “للتوسع” في البعثات الدبلوماسية، ومراجعة هذا الأمر يحتاج لخطة سياسية ربما لا تملكها حكومة الدبيبة، فهي تتوسع في السفارات وتعتبرها جزء من سياستها في كسب الولاءات الداخلية لاستمرارها في إدارة البلاد.
بقلم: مازن بلال
“عربون نوايا حسنة”.. نواب فرنسيين يزورون الجزائر في ظل توتر بين البلدين