15 مايو 2025

تجاوزت زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى موسكو في أبريل 2025 الشكل الاعتيادي للعلاقات الثنائية، حيث جاءت لتأكيد رؤية استراتيجية بين روسيا وقطر في التتعامل مع التحولات الجيوسياسية بعقلانية ومرونة.

لا يمكن فصل الجانب السياسي عن الاقتصادي في العلاقات الروسية – القطرية، فالاستثمارات القطرية في روسيا تتجاوز 13 مليار دولار، وهي ليست مجرد أرقام فقط، بل تعكس علاقة اقتصادية ذات طابع سياسي واستراتيجي، فتنوع هذه الاستثمارات يعطيها شكل غير مسبوق في مسألة التعامل بين الدولتين، حيث يعكس تطورها تجاوبا بين الدوحة وموسكو لطبيعة التحولات الاقتصادية التي يشهدها العالم سواء في أسواق الطاقة أو الاستثمار في الخدمات، ويبين الرسم البياني التالي تطور الاستثمارات بين البلدين خلال السنوات القليلة الماضية:

يوضح الرسمان البيانيان تطورا متزايدا في العلاقات الاقتصادية الروسية – القطرية من العام 2020 حتى 2025، فالاستثمارات القطرية في روسيا زادت بشكل تدريجي من 10 مليارات إلى نحو 14.6 مليار دولار، أما حجم التبادل التجاري فارتفع من 55 مليون دولار في 2020 إلى حوالي 180 مليون دولار في 2025، وتتنوع الاستثمارات القطرية من حصة تبلغ 18.9% في عملاق الطاقة الروسي “روسنفت”، إلى حصص في مطاري بولكوفو وفنوكوفو، ومشاريع النقل والبنية التحتية مثل الطريق السريع في بطرسبرغ، فقطر تدير واحدة من أنشط استثماراتها السيادية خارجيا في السوق الروسية كما يوضح الرسم البياني التالي:

بحسب ما هو واضح، فإن هذه الاستثمارات لم تتأثر بالعقوبات الغربية المفروضة على موسكو منذ بدء الحرب في أوكرانيا، ما يعكس استقلالية الدوحة في سياساتها الخارجية وتفضيلها سياسة التوازن التي أدت ليس فقط إلى تطور الاستثمار بل أيضا لظهور رؤية استراتيجية بين البلدين في جميع القضايا الإقليمية والدولية.

وظهرت نتائج هذا التطور في العلاقات مع انطلاق فعاليات منتدى الأعمال الروسي القطري، وذلك بالتوازي مع زيارة أمير قطر إلى موسكو، وشهدت مشاركة رفيعة المستوى من المسؤولين ورجال الأعمال من الجانبين، ولم يكن المنتدى عرضا لما حققته العلاقات بين البلدين فقط، بل منصة حقيقية لبحث فرص التوسع في مجالات الصحة والتكنولوجيا والنقل والخدمات اللوجستية، الاتفاقيات الجديدة، وأبرزها ضخ ملياري دولار إضافية في منصة استثمارية مشتركة، تعزز من عمق الشراكة وتنوعها.

التقاء مصالح في ملفات دولية حساسة

على المستوى السياسي، حملت زيارة الشيخ تميم بعدا يتجاوز العلاقات الثنائية، فاللقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تطرق إلى ملفات الشرق الأوسط، من فلسطين إلى سوريا، وصولاً إلى الحرب في أوكرانيا، وفي كل من هذه الملفات مؤشرات عن طبيعة الأدوار السياسية للبلدين، حيث تفضل قطر لعب دور الوسيط السياسي، وذلك نتيجة مصالحها الاقتصادية التي تفرض طبيعة تعامل متوازن مع كافة الأدوار الإقليمية والدولية، وهو ما أكده الرئيس الروسي حين وصف قطر بـ”شريك مهم في الشرق الأوسط”، مشيدًا بمبادراتها في الملف الفلسطيني والدور الممكن أن تلعبه في أوكرانيا.

كما جاء الحديث عن “إمكانية استضافة مفاوضات غير مباشرة بين روسيا والولايات المتحدة في الدوحة”، كمسار سياسي يؤشر على شكل التعامل الروسي مع حياد قطر النسبي، رغم علاقتها المتينة بواشنطن، وعلى الطابع العملي الذي باتت تحكم به الدوحة أدوارها الخارجية.

فلسطين وسوريا: تقاطع في الرؤية

كان الملف الفلسطيني في صلب محادثات الكرملين، والواضح أن الدولتين يعتمدان مسارا سياسيا متقاربا، وذلك عبر التأكيد على ضرورة وجود دولة فلسطينية تؤسس لإنهاء حالة الحرب وتكريس سلام دائم في المنطقة، فاستمرار الدوحة في جهود الوساطة بين حماس وإسرائيل يؤكد على الحدود في الدور القطري الذي يتعامل مع الطرفين للتهدئة، من جانبه أكد الرئيسي بوتين على أن الحل لا يكون إلا بتطبيق قرارات مجلس الأمن.

الزيارة أيضا تناولت الملف السوري حيث أبلغ الشيخ تميم نظيره الروسي بتفاصيل لقائه مع الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، الذي أبدى حرصه على استمرار التعاون مع موسكو، فهذا الملف له حساسية  خاصة فروسيا وقطر اختلفت مواقفهما من النظام السوري السابق، لكن هذا الأمر فتح بابا لإيجاد أرضية مشتركة في دعم وحدة سوريا وسيادتها في ظل الواقع السياسي الجديد، وضرورة دعم العملية السياسية التي ستعيد لسوريا موقعها الإقليمي.

ضمن الإطار العام لزيارة أمير قطر إلى موسكو فإنها توضح أن روسيا رسمت خلال العقدين الماضيين استراتيجيتها الخاصة في منطقة الشرق الأوسط، ونموذج علاقتها مع قطر يقدم الخطوط الأساسية لنظرتها الخاصة لمنطقة لا تتسم فقط بالتنافس الدولي بل أيضا بالفرص الممكنة لخلق بيئة سلام واضحة، ويظهر هذا الأمر عبر اتجاهات خاصة يمكن رؤيتها في:

  • الأبعاد الثقافية فالشراكة القطرية – الروسية كنموذج لا تقتصر على الاقتصاد والسياسة، حيث تشكل الثقافة والسياحة مكونا مهما، والبرنامج الثقافي “قطر – روسيا 2018” أثبت قدرة الفن والثقافة على لعب دور الجسر الناعم في السياسة الدولية، كما أن اتفاقيات إلغاء التأشيرات، وزيادة التبادل السياحي بين البلدين، تضيف بعدا شعبيا يدعم العلاقات على المستوى المجتمعي.
  • الغاز والسيادة: لا يمكن تجاهل أهمية التعاون في قطاع الغاز، فقطر وروسيا كأكبر مصدري الغاز في العالم، يتعاونان ضمن منتديات الدول المصدّرة للغاز، ويبحثان توسيع التعاون في الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، وذلك في ظل التوترات حول الطاقة في أوروبا.
  • توازن إقليمي حيث تقدم روسيا نموذجا لما يمكن أن تكون عليه الشراكة الاستراتيجية بين دول الجنوب، ومن هذه الزاوية يمكن قراءة المباحثات القطرية – الروسية، فرغم اختلاف خلفية البلدين، لكنهما تتفقان على الدعوة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، يقوم على احترام القانون الدولي ورفض العقوبات الأحادية.

زيارة أمير قطر إلى روسيا لم تكن مجرد زيارة مجاملة، بل جاءت تتويجا لمسار طويل من التقارب السياسي والتعاون الاقتصادي والثقافي، والشراكة بينهما هي نتيجة تطور مستمر لنموذج يعكس مصالح مشتركة، وتوافق في الملفات الكبرى، واستعداد لطرح مقاربات بديلة للأزمات الدولية، ويبدو أن موسكو والدوحة قررتا أن تبنيا علاقة متينة على أرضية المصالح المتبادلة، بعيدا عن الاصطفافات الآيديولوجية.

بقلم مازن بلال

روسيا تفتح قضية جنائية ضد مرتزق فرنسي لاتهامه باغتصاب سيدة في خاركوف

اقرأ المزيد