14 مايو 2025

تنقل عملية طرد دبلوماسيين جزائريين من فرنسا صورة لخلافات لم تعد تقتصر على خلافات سياسية فقط، فهناك تناقض صريح على مستوى استراتيجيات الدولتين تجاه الملفات المتعلقة بالشمال الإفريقي.

مشهد التشابك الدبلوماسي بين باريس والجزائر ليس جديداً، لكنه اليوم أكثر حدة، فالعلاقات الفرنسية الجزائرية دخلت منعطفاً جديداً من التوتر بعد أشهر من محاولات التقارب، والقرار المفاجئ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بطرد 12 موظفاً من البعثة الدبلوماسية الجزائرية، واستدعاء السفير الفرنسي في الجزائر ستيفان روماتيه للتشاور، جاء رداً على خطوة مماثلة من الجزائر أمرت بطرد 12 موظفاً تابعين لوزارة الداخلية الفرنسية.

الخلافات الفرنسية-الجزائرية

تتشابك العلاقات الفرنسية-الجزائرية في عدد من القضايا الاستراتيجية والتدخلات الأمنية، حيث تتصاعد التوترات بين البلدين على خلفية مختلف الأحداث والاتهامات المتبادلة، وتظهر أبرز هذه التحديات في الادعاءات الجزائرية بأن فرنسا حاولت زعزعة استقرارها من خلال تجنيد عناصر محلية لتنفيذ عمليات تخريبية، حيث تصاعدت الأزمة في ديسمبر 2024، بعد استدعاء الجزائر للسفير الفرنسي عقب اكتشاف مخطط استخباراتي فرنسي يهدف إلى تجنيد شاب جزائري لإنشاء جماعة إرهابية، وجاء الرد الفرنسي نافياً لهذه الاتهامات، معتبراً إياها بأنها غير صحيحة.

على جانب آخر، تبرز التوترات المتعلقة بدعم فرنسا للمغرب في قضية الصحراء الغربية، والتي تعتبرها الجزائر تجاوزاً غير مسبوق، ما دفعها لخفض التمثيل الدبلوماسي مع فرنسا وإلغاء زيارات دبلوماسية مخطط لها، وتعكس هذه الخلافات تعميق الشكوك الجزائرية تجاه الدور الفرنسي في إفريقيا، وتحديداً في ظل التقارب الفرنسي-المغربي.

ويُظهر التنافس على النفوذ في الساحل الإفريقي جانباً آخر من الصراع، حيث تروج فرنسا لعملياتها العسكرية في محاربة الإرهاب، بينما تقترح الجزائر مقاربة أمنية إقليمية تستند إلى التعاون بين دول الجوار دون تدخل أجنبي، فتتهم الجزائر فرنسا بتقويض جهودها في هذا السياق، بينما تشكك فرنسا في فاعلية النهج الجزائري.

وتتجذر هذه الخلافات في الذاكرة الاستعمارية، حيث ما زالت الجزائر تطالب بإقرار فرنسا بجرائم الاستعمار مثل المجازر الجماعية والتجارب النووية، وهو ما ترفضه فرنسا جزئياً، وتغذي هذه الخلافات التاريخية الشكوك وتعيق بناء الثقة المتبادلة بين البلدين.

من بوخرص إلى بوغضب: جذور الاشتعال

الأزمة الحالية لا تبدو كسابقاتها لأنها أعمق وأكثر تشابكاً، وتتزامن مع مناخ سياسي متقلب في كلا البلدين، ما يجعل فرص التهدئة أكثر صعوبة، فالشرارة جاءت من باريس وتحديداً في 12 أبريل، حيث تم اعتقال  موظف قنصلي جزائري، يتمتع بحصانة دبلوماسية، مع اثنين آخرين، على خلفية اتهامهم بالتورط في اختطاف الناشط والمعارض الجزائري المقيم في فرنسا، أمير بوخرص، المعروف بلقب “أمير دي زاد”المطلوب من السلطات الجزائرية، وتتحدث الرواية الفرنسية أنه اختُطف من أمام منزله جنوب باريس من قبل أربعة رجال يرتدون شارات شرطة وتم تقييده وتخديره قبل نقله إلى الجزائر.

السلطات الجزائرية رأت في الاعتقال الدبلوماسي الجزائري “انتهاكاً صارخاً للأعراف الدبلوماسية” واعتداءً على السيادة، وردت بطرد 12 موظفاً فرنسياً يعملون ضمن فرق أمنية تابعة لوزارة الداخلية الفرنسية، قبل أن ترد باريس بالمثل، ولم يتوقف التصعيد عند حدود الطرد المتبادل للدبلوماسيين، فماكرون الذي تحدث في وقت سابق هاتفياً مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون في مارس، في محاولة لإنعاش العلاقات، اختار أن يتّبع هذه المرة نهجاً أكثر حدة،وبرر الإليزيه الخطوة بأن الجزائر “أخلّت بالقواعد الأساسية للعلاقات الثنائية”، مؤكداً أن “السلطات الجزائرية تتحمل مسؤولية التدهور المفاجئ”.

أما في الجزائر فالاتهامات كانت أكثر وضوحاً، ووُجهت سهام النقد نحو وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو، واعتُبر أنه “سعى لإهانة الجزائر” وتسييس ملف قضائي لأغراض شخصية وانتخابية، وقال كاتب الدولة المكلف بالجالية الجزائرية، سفيان شعيب، إن روتايو “أفشل مسار التقارب بالكامل”.

اليمين الفرنسي وحرب الظلال

العامل السياسي الداخلي الفرنسي يلعب دوراً رئيسياً في توجيه سياسة باريس تجاه الجزائر، فصعود اليمين المتطرف جعل من الهجرة ملفاً أساسياً، ودفَع الحكومة لتشديد لهجتها ضد الجزائر، خاصة في ملف ترحيل المهاجرين غير النظاميين، فوزير الداخلية روتايو أوضح وبشكل صريح أن “فرنسا لن تكون ملعباً للمخابرات الجزائرية”، في إشارة إلى قضية بوخرص، كما ألمح إلى استخدام أدوات ضغط إضافية مثل التأشيرات والاتفاقيات الثنائية، في المقابل اعتبرت الجزائر أن “فرنسا تخلط بين ملفات الهجرة والدبلوماسية والقضاء في سلة واحدة”، ووصفت التصعيد بأنه “رد فعل استعماري جديد”.

التداعيات الدبلوماسية بين البلدين أوجدت سابقة خطيرة فللمرة الأولى منذ الاستقلال لا يوجد سفراء بين باريس والجزائر العاصمة، لكن هذا الأمر لا يرتبط فقط بالخلافات حول الناشطين الجزائريين في فرنسا، فالجزائر سحبت سفيرها منذ يوليو 2024 احتجاجاً على اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، ويؤشر هذا الأمر أن عمق الخلافات تتجاوز مسألة “بوخرص”، فهناك تناقض صريح بين الدولتين في أمور تمس الأمن الجزائري ورؤيته للملفات في الشمال الإفريقي.

هذا التوتر عبر عنه رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الجزائري محمد عمرون، حيث رأى أن الأزمة هذه المرة مختلفة وتحمل أبعاد “أعمق من أن تُحل باتصال هاتفي أو زيارة بروتوكولية”، فالخلافات هي الآن في ملعب باريس التي بدأت التصعيد، وهذا التصريح ينقل المخاوف الجزائرية من الاتجاهات السياسية لفرنسا التي لا تراعي الاعتبارات الجزائرية في قضايا حساسة مثل مسالة الصحراء، وتلعب على التناقضات التي تخلفها الخلفات بين الجزائر والمغرب لتضغط على الحكومة الجزائرية.

لغة السياسة والسيادة

إحدى الإشارات الرمزية على قطيعة أعمق جاءت من شركة الخطوط الجوية الجزائرية التي قررت إزالة اللغة الفرنسية من تذاكرها ومراسلاتها، واعتماد العربية والإنجليزية فقط، وهذا القرار حتى إن بدا بسيطاً، يحمل شحنة سياسية كبيرة في بلد يُنظر فيه للفرنسية كلغة استعمار، فهذه الخطوة تُجسد توجهاً نحو القطع الثقافي مع فرنسا، في سياق وطني يسعى لتعزيز الهوية المستقلة.

عملياً فإن ما يقف في طريق التهدئة ليس فقط الملفات الشائكة، بل أيضاً انعدام الثقة، فالزيارات الرسمية أُلغيت، والتعاون الأمني جُمِّد، وملفات كالهجرة، والمعتقلين، و”الذاكرة الاستعمارية” لا تزال نقاط خلاف مزمنة، والأزمة، في جوهرها، لم تعد مجرد اشتباك سياسي عابر، بل مواجهة متعددة الأبعاد تشمل الأمن، السيادة، الهجرة، والرمزية التاريخية.

ومع اقتراب الانتخابات الفرنسية، يزداد استخدام الملف الجزائري كورقة انتخابية، وفي الجزائر، تواصل الحكومة التأكيد على “الندية والسيادة أولاً”، مع التلميح إلى تعزيز الشراكة مع إيطاليا بديلاً عن فرنسا في ملفات الطاقة والتعاون الأمني، وفي ظل غياب قنوات حوار فعّالة، ووسط توتر إعلامي متبادل، تبقى العلاقات رهينة انفجارات مستقبلية جديدة، ما لم يحدث تحوّل جذري في طريقة إدارة هذا الملف على أعلى مستوى، وينطلق من الخلافات الاستراتيجية المرتبطة بسياسة الدولتين تجاه مسائل حساسة مثل الأمن الإقليمي في الشمال الإفريقي التي يمكنها حل كافة الأزمات الأخرى بين البلدين.

بقلم: نضال الخضري

اشتباكات عنيفة تطال لاعبي اتحاد الجزائر (فيديو)

اقرأ المزيد