تزامنت زيارة سلطان عمان، هيثم بن طارق، إلى موسكو مع واقع خاص عبر رعاية السلطنة للمفاوضات الإيرانية - الأمريكية بخصوص ملف إيران النووي. فالمباحثات جاءت في لحظة سياسية حرجة وضمن مؤشر لمستوى تنسيق جديد بين البلدين.
الزيارة التي قام بها السلطان شهر إبريل الماضي (2025) وصفت بالتاريخية، فهو أول سلطان عماني يزور روسيا منذ توليه الحكم في يناير 2020، وجاءت مع الذكرى الأربعين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين السلطنة والاتحاد السوفييتي السابق في 1985، وهي في نفس الوقت عبرت عن ظاهرة سياسية يسعى الكرملين لتكريسها عبر تعزيز العلاقات مع دول الخليج العربي، فقبلها كانت لأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، إضافة لعدة محادثات مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولقاءات روسية – إماراتية عدة.
وجرت الزيارة بدعوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولم تكن مجرد احتفاء رمزي بتاريخ العلاقات الثنائية، بل تمثل تحولا استراتيجيا في تموضع عمان الإقليمي وعلاقاتها الدولية، وفي الدور الروسي الداعم لاستقرار منطقة الخليج، فبينما تعزز السلطنة شراكاتها الاقتصادية والسياسية مع قوى الشرق، لا سيما موسكو، فإنها تحتفظ في الوقت ذاته بدورها الحيادي البنّاء كوسيط موثوق، لا سيما في ملف إيران النووي، وهو ما تدركه موسكو وتتعامل معه كموضوع إيجابي وفعال في الأزمات الإقليمية، فالزيارة طرحت سؤال أساسيا حول إمكانية أن تلعب روسيا، حليف طهران الاستراتيجي، دورا مساعدا في إنجاح الجهود العمانية المدعومة أمريكيا
شراكة استراتيجية متعددة الأبعاد
خلال الزيارة التي استمرت يومين، عقد الزعيمان قمة في الكرملين شهدت توقيع 11 اتفاقية ومذكرة تفاهم في مجالات الطاقة، الاستثمار، النقل، التعليم، الثقافة، السياحة، والدبلوماسية، وأبرزها اتفاقية الإعفاء المتبادل من التأشيرات للجوازات العادية، وإنشاء لجنة مشتركة دائمة بين البلدين، كما استعرض الجانبان فرص التعاون في مجالات الطاقة المتجددة والخدمات اللوجستية والأمن الغذائي.
التبادل التجاري بين البلدين تجاوز 346 مليون دولار بنهاية 2024، وتعمل في عمان 277 شركة بمساهمة روسية، وتطمح مسقط إلى جذب المزيد من الاستثمارات الروسية، لا سيما في قطاعات التعدين والطاقة، حيث تعتبر موسكو سلطنة عمان منفذا استراتيجيا إلى الخليج والأسواق الآسيوية، وهو ما جعل التبادل التجاري يتطور كما يوضح الرسم البياني التالي:
كما حافظت الاستثمارات الروسية في عُمان على تطور ثابت وذلك على الرغم من الاضطرابات التي حدثت على المستوى الدولي منذ الأزمة الأوكرانية، ويقدم الرسم البياني التالي صورة تطور الاستثمارات خلال السنوات التسع الماضية.
عُمان.. الوسيط الهادئ في عاصفة الشرق الأوسط
الجانب الجيوستراتيجي من الزيارة يتضح في طبيعة التعاون بين روسيا والسلطنة في الملفات الشائكة، فمضيق هرمز جعل عُمان في موقع خاص وسط أزمات المنطقة، وجعلها نقطة التقاء لمعظم الأطراف حيث لعبت دور الوسيط في صراعات المنطقة؛ من الاتفاق النووي الإيراني الأصلي عام 2015، إلى تقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران، وحتى جهود خفض التصعيد في اليمن، فعملت على تهيئة بيئات التفاوض، وفي هذا السياق تكتسب زيارة السلطان هيثم إلى موسكو بعدا جديدا، فروسيا تُعدّ أحد أبرز الداعمين الدوليين لطهران، وتحتفظ بعلاقات عسكرية واقتصادية وثيقة مع طهران، لكن روسيا أيضا تسعى لتوسيع علاقتها مع دول الخليج، ولا سيما مع إدارة ترامب وهي تملك أوراقا هامة في أي عملية تفاوض في الشرق الأوسط.
السؤال المحوري الذي رافق زيارة سلطان عمان لموسكو: هل يمكن لروسيا أن تلعب دورا إيجابيا في تيسير مفاوضات إيران والغرب؟ والجواب هنا معقد، فمن جهة، تدرك موسكو أن وجود تسوية نووية مستدامة يُخفف من حدة التوتر الإقليمي ويخدم استقرار الأسواق النفطية، وهو ما يصب في مصالحها الاقتصادية، كما أن نجاح أي مسار دبلوماسي ترعاه روسيا أو تُشارك فيه يرفع من مكانتها الدولية في مواجهة العزلة الغربية.
في المقابل فإن عرقلة أي تقارب إيراني – أمريكي سيدفع طهران لموقع سياسي أقرب إلى موسكو، وتُصعّب عودتها إلى السوق النفطية العالمية بشروط تُنافس الصادرات الروسية، ووفق هذه المعطيات المتشابكة تميل روسيا إلى سياسة “التسهيل المحدود” للمفاوضات، دون الذهاب إلى الضغط الحاد على إيران لتقديم تنازلات مؤلمة.
في هذا الإطار، يمكن لمسقط أن تلعب دور “جسر الوساطة”، حيث تملك الشرعية الإقليمية والدولية للقيام بهذا الدور، في حين تملك موسكو النفوذ الفعلي على طهران،والتعاون الروسي العماني، يتحول إلى محور دبلوماسي جديد يربط الخليج، طهران، وواشنطن، عبر قناة مسقط.
عمان وروسيا.. مصالح تتقاطع ووساطة تُعاد هندستها
الرهان العماني على موسكو ليس وليد اللحظة، فالسلطة على عكس حلفاء واشنطن التقليديين لم تنخرط في محاور عدائية، وحرصت على إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع الجميع، ومن هذا المنطلق، فإن توثيق الشراكة مع روسيا يُعزّز هامش المناورة العماني في الملفات الإقليمية، من إيران إلى اليمن، وروسيا بدورها تدرك أهمية الموقع العماني الاستراتيجي عند مضيق هرمز، ومكانة مسقط كمفتاح للبوابة الخليجية، وفي ظل طموحها لتدشين قمة روسية – عربية هذا العام، فإن تعزيز تحالفها مع سلطنة عمان يمنحها ورقة إضافية في إعادة تشكيل علاقاتها العربية بعيدا عن الاستقطاب الغربي.
زيارة السلطان هيثم إلى موسكو ترجمة لتحول روسي – عُماني أوسع نحو تحالفات مرنة، وتوسيع شبكة الشراكات، فروسيا تملك القدرة على التأثير في الملفات الشائكة مثل ملف إيراني النووي، وتعمل في نفس الوقت على توازن استراتيجي يبقى طهران ضمن دائرة الحوار رغم مصالح موسكو العميقة مع إيران، ومسقط من ناحيتها، تعرف كيف تدير الخيوط الدقيقة، وهذا التناغم الجديد مع موسكو بداية لمرحلة دبلوماسية مختلفة، عنوانها: وساطة متعددة الأقطاب، بعقلية شراكة استراتيجية.
بقلم: مازن بلال
روسيا تصادق على اتفاقية تعاون مع الجزائر