كانت ثورة تونس في يناير 2011 بوابة التحولات الإقليمية أوما عرف بـ”الربيع العربي”، وشكل بالنسبة للغرب فرصة لتكرار سيناريو “الثورات الملونة” لكن داخل بيئة عربية، واختباراً لرسم سياسات أمريكية وغربية عبر هذه الثورات.
عندما أضرم محمد البوعزيزي النار في نفسه بمدينة سيدي بوزيد، مفجراً موجة من الاحتجاجات العارمة ضد الفساد والقمع والبطالة، فإن هذا الحدث الذي ظهر كحركة عفوية نابعة من صميم المعاناة التونسية اجتذب أنظار العالم، ورسم مساراً من شمال إفريقيا باتجاه شواطئ المتوسط ووصولاً إلى اليمن، ولكن هذه التحركات تبدو اليوم وكأنها ظاهرة عابرة لمتحمل معهاطموحات الشعوب التي انتفضت وفق النموذج التونسي.
بعد مرور أكثر من عقد، ومع الأحكام القضائية القاسية التي صدرت مؤخراً ضد رموز المعارضة في تونس، عاد سؤال الدور الغربي ليطفو مجدداً: هل كانت الثورة التونسية نموذجاً مبكراً لـ”هندسة” التغيير السياسي برعاية غربية؟ أم أن الغرب اكتفى بالفرجة على حراك شعبي لم يتوقعه، ثم سارع لاحتوائه بما يخدم مصالحه؟
الفكرة الرومانسية… والتوظيف الواقعي
تبنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في خطابهم العلني ثورة الياسمين التونسية كرمز للحرية والديمقراطية، لكن ذلك الخطاب تراجع بشكل سريع حين ظهر بشكل صريح أن ما بعد الثورة لم يكن وردياً وأن الديمقراطية كانت موجودة على الورق، لكن الواقع شهد ارتباكاً سياسياً وانهيارا ًاقتصادياً وصعوداً ملحوظاً للقوى الإسلامية.
وتعامل الغرب مع تونس كمختبر لعمليات التحول التي رافقت أحداث “الربيع العربي”، فهي بلد صغير نسبياً، وبلا نفط ولا موقع جيوسياسي محوري، ما جعل منه بيئة مناسبة لتجربة انتقال ديمقراطي “آمن”، يمكن الترويج له على أنه نموذج ناجح، ولكن حين تبين أن الحراك الشعبي لا يسير وفق هندسة مصالح القوى الكبرى، تم تخفيض سقف الاهتمام، وجرى تسليم تونس لمصيرها الداخلي، مكتفين بالدعم الانتقائي لبعض النخب.
وبعكس ما حدث في أوكرانيا أو جورجيا، لم يكن هناك أدلة دامغة على تورط مباشر لأي طرف غربي في إشعال فتيل الاحتجاجات التونسية، فلم يتم إثبات وجود لأموال المنظمات الأجنبية، ولا نخب تم تهيئتها بشكل قوي، بل كانت هناك حالة رفض جماعي لقمع استمر لعقود، وهذا الشكل جعل من الثورة التونسية أكثر أصالة، لكنه جعلها أيضاً أقل قدرة على تحصيل دعم دولي منسق عندما احتاجته لاحقاً.
وكان واضحاً أنما يحدث غريباً عن السياسات الأوروبية المباشرة، ففرنسا، التي دعمت نظام بن علي حتى اللحظة الأخيرة، غيّرت موقفها فجأة مع سقوطه، أما الولايات المتحدة فكانت أكثر حذراً، واكتفت بالتشجيع عبر تصريحات وخطابات عامة، ومع الوقت، صار “فيسبوك” و”تويتر” جزءاً من السردية الغربية التي تصف كيف تنتشر الديمقراطية عبر أدوات الاتصال الحديثة، وكأن الثورة نفسها نتاج “وادي السيلكون” في أمريكا.
من التغيير إلى التصدع
لكن الواقع بعد 2011 لم يسر كما حلم به التونسيون، فالنخبة السياسية المدعومة من الخارج فشلت في تحسين أوضاع الناس، وتدهور الاقتصاد وازدياد الفساد، بينما انهارت الثقة في الديمقراطية، وظهرت مع الوقت إشارات فيها ارتداد إلى الاستبداد، وعبرت عنها سلسلة الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد منذ 2021 التي شملت تعليق البرلمان والحكم بالمراسيم، وإقصاء القضاة والسياسيين، وخلال العام الجاري، 2025، أصدرت المحاكم التونسية أحكاما بالسجن تراوحت بين 15 سنة وصولاً إلى 66 عاماً بحق معارضين بارزين، وهذه المحاكمات التي وصفتها هيئة الدفاع بـ”المهزلة”، تمّت وسط تهم بالتآمر على أمن الدولة والانقلاب على النظام، لكنها في نظر كثيرين ما هي إلا غطاء قانوني لتصفية الخصوم وتدشين مرحلة استبدادية جديدة.
في المقابل فإن الغرب الذي كان يوصف بـ”عرّاب الديمقراطيات” يقف اليوم صامتاً وغائباً بشكل كامل عن المشهد، وكأن تونس لم تكن يوماً تجربته النموذجية في الشرق الأوسط، ففي السنوات التي تلت الثورة، استخدم الغرب تونس كعلامة ناجحة، وتحدثت مراكز الأبحاث في واشنطن وبروكسل عن “الاستثناء التونسي”، ذلك البلد الذي اجتاز الربيع العربي دون غرق في الحروب الأهلية أو صعود الجماعات المسلحة، لكن هذا الاستثناء لم يصمد أمام الواقع،فحين احتاجت تونس دعماً اقتصادياً حقيقيا ًأو غطاءً دبلوماسياً لانتقالها السياسي، اختفى الجميع.
عملياً، حتى المنظمات الغربية التي كانت نشطة في دعم المجتمع المدني قلّصت وجودها أو غيرت أولوياتها، وجاءت السياسات الغربية بشكل يعاكس الحلم التونسي، حيث دعمت بعض الدول الغربية “الثورات المضادة” في دول أخرى كأولوية على حساب استمرار التجربة الديمقراطية التونسية، والمفارقة هي أن نفس القوى التي دعمت “التغيير” في 2011، صمتت عندما تحوّل هذا التغيير إلى تصفية حسابات سياسية وقضائية.
لم تكن مشكلة الغرب في الديكتاتورية بحد ذاتها وفقما أظهره التعامل مع التجربة التونسية، بل في تعارضها مع مصالحه، فالاستبداد “المرن” بالنسبة للغرب يمكن التعامل معه، ما دام لا يهدد موازين القوى أو المصالح الاقتصادية، وهذا ما جعل قضية “التآمر على أمن الدولة” في تونس، التي يحاكم فيها 40 شخصية من رموز المعارضة، رمزاً لاختلال الميزان بين الديمقراطية الحقيقية، والتدخل الخارجي الذي يدّعي دعمه للتجربة الديمقراطية بينما يمارس العكس.
ثورة تونس كانت حقيقية وبدأت من شارع ومن إحساس جماعي بالمهانة والرغبة في العيش الكريم، لكن الغربب حساباته الباردة تعامل معها كأداة ناعمة لإعادة تشكيل المنطقة دون جيوش أو فوضى عارمة، ولم يكن ما حدث في تونس “ثورة ملونة” بنكهة محلية، بل كان احتواء لثورة حقيقية وتوجيه مسارها بما يتماشى مع استراتيجيات النفوذ، والنتيجة نظام ديمقراطي هش سُحب منه الدعم، ومشهد سياسي يغرق مجدداً في الاستبداد وسط صمت غربي مطبق، وكأن الرسالة النهائية هي: “الثورات لا بأس بها، ما دامت لا تخرج عن نصنا.”
بقلم: نضال الخضري
10 وفيات بين المهاجرين التونسيين في سجون إيطاليا خلال 2024