بعد إصدار محكمة تونسية في التاسع عشر من شهر إبريل الماضي، أحكاماً بالسجن تتراوح بين 13 و66 عاماً ضد عدد من أبرز المعارضين والسياسيين والمحامين ورجال الأعمال، فإن مستقبل المسار الديمقراطي في تونس أصبح في مهب الريح.
القضية التي باتت تعرف بـ”قضية التآمر على أمن الدولة”، التي وُصفت بأنها الأشد قسوة منذ الثورة، وتشمل نحو 40 متهماً، بعضهم رهن الاعتقال منذ 2023، ومن بينهم شخصيات سياسية بارزة مثل غازي الشواشي، عصام الشابي، جوهر بن مبارك، ورضا بالحاج، حيث تتهمهم السلطات بـ”التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي”، والانتماء إلى “تنظيمات إرهابية”، ومحاولة “تبديل هيئة الدولة” و”التحريض على الفوضى”.
لكن المعارضة تراها ضمن مقاربة مختلفة كليا، فهي حسب تصريحاتها ذات طابع سياسي بامتياز، وتأتي ضمن مسار من الإجراءات التي تهدف إلى “خنق الحريات وترسيخ الحكم الفردي” بقيادة الرئيس قيس سعيد، الذي يحكم البلاد منذ إعلانه التدابير الاستثنائية في يوليو 2021.
محاكمة مثيرة للجدل
وضعت الجلسة الأخيرة من المحاكمة أسئلة حاسمة حول التوجهات العامة للدولة التونسية، وحسب أحد أعضاء هيئة الدفاع عن المتهمين، المحامي سمير ديلو، فإن الجلسة الأخيرة افتُتحت واختُتمت خلال أقل من 30 ثانية، دون استنطاق، ولا مرافعات، ولا حتى تلاوة قرار دائرة الاتهام، فما حدث حسب وصفه “ليس محاكمة، بل عبث قانوني ينتهي بجنون قضائي”، ويؤكد هذا الأمر أن التوجهات السياسية كانت أقوى من سلطة القضاء، وأن المسار الديمقراطي أصبح ضمن الأسئلة الصعبة داخل النخب التونسية.
وشهد محيط المحكمة احتجاجات واسعة لعائلات المعتقلين ونشطاء المجتمع المدني، رُفعت خلالها شعارات مثل “سيبوا المعتقلين”، و”أوقفوا المهزلة”، و”لا لقضاء التعليمات”، في إشارة إلى ما يعتبرونه تسييساً للعدالة، وصورة الاحتجاجات تقدم المساحة الأوسع للرأي العام تجاه عمق العملية السياسية التي بدأت بثورة ضد الاستبداد، واليوم تقف على اعتاب صراع ما بين السلطة والمعارضة.
المحكمة وصورة العدالة
الجانب الآخر من محاكمة المعارضين التونسيين جاءت في صورة العدالة عبر الجلسات المتتالية، حيث أوضحت هيئة الدفاع إن المحاكمة تخللها خروقات قانونية جسيمة، من بينها منع الإعلام من تغطية الجلسات، وحرمان المتهمين من المثول حضورياً، ورفض كل الطلبات الشكلية المقدمة من المحامين، كما أكدت تنسيقية عائلات المعتقلين السياسيين أن “ما يُسمى التآمر على أمن الدولة، هو في الحقيقة تآمر من السلطة على قيادات المعارضة”، مشيرة إلى أن ملف القضية “فارغ”، وأن التهم “مفبركة ولا تستند إلى أي أدلة ملموسة”.
ما تعبره أوساط المعارضة انهياراً في العدالة وسلطة القضاء؛ يمكن وضعه فالمساحة الأكبر من علاقة تونس بالتحولات التي ظهرت في شمالي إفريقيا والشرق الأوسط منذ عام 2010، فتونس اعتُبرت الاستثناء الوحيد الناجح في موجة “الربيع العربي”، بعد أن قادت انتقالاً ديمقراطياً سلمياً أعقب الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي عام 2011، لكن منذ إعلان الرئيس قيس سعيد تعليق عمل البرلمان في 2021، ثم حله في العام التالي، وانفراده بالسلطة التشريعية والقضائية، بدأ كثيرون يتحدثون عن “الانقلاب على الديمقراطية”.
وفي عام 2022، قام سعيد بحل المجلس الأعلى للقضاء، وأقال عشرات القضاة، ما اعتُبر خطوة نحو إخضاع القضاء للسلطة التنفيذية، وحسب منظمات حقوقية دولية، من بينها “هيومن رايتس ووتش”، فإن الاعتقال التعسفي بات “ركيزة أساسية في السياسة القمعية” التي تتبعها السلطات التونسية حالياً.
خطاب التخوين
سبق للرئيس سعيد أن وصف في مناسبات علنية المتهمين في هذه القضية بأنهم “خونة وإرهابيون”، واعتبر أن “القضاة الذين قد يبرّئونهم شركاء في الجريمة”، ما يعزز الشكوك حول استقلالية القضاء في ظل هذه الأجواء، وحسب المعارض وزعيم حزب العمال، حمة الهمامي، فإن “ما يسمى بقضية التآمر هي مجرد ذريعة جديدة لحكم استبدادي لم يعد لديه ما يقدمه للشعب سوى المزيد من القمع”، من جانب آخر فإن زعيم “جبهة الخلاص” المعارِضة نجيب الشابي، يؤكد أن “السلطات تحاول تجريم العمل السياسي، وترهيب كل من يجرؤ على معارضة الرئيس”.
هذا التوجه السياسي من قبل الأطراف المعارضة يؤشر على عمق الأزمة الديمقراطية، وأن المسارات التي رسمتها ثورة التونس أصبحت مجال خارج التنافس السياسي أو تداول السلطة، فبغض النظر عن آراء كافة الأطراف فإن حدة الخطاب السياسي تفضي عملياً إلى مزيد من المواجهات، والاستقطاب ما بين تيار الرئيس التونسي وباقي طيف المعارضة، والواضح من التطورات المتلاحقة للصراع السياسي في تونس أن الصور “الجميلة” للثورة التونسية أصبحت من الماضي.
معركة الاستئناف.. والمصير المجهول
ليس المهم ضمن المستقبل السياسي التونسي الحديث عن “الاستئناف” لهذه الأحكام، ورغم أنه الأمل الوحيد للمتهمين في إعادة النظر بالقضية، لكن الأمر الأساسي هو بما تقدمه هذه المحاكمات من مؤشرات سياسية، حيث لا تهدد هذه الأحكام فقط مستقبل المعارضة، بل تضع البلاد على مسار خطير نحو التفرد بالسلطة، في ظل غياب توازن مؤسساتي حقيقي، وانكماش غير مسبوق للحريات السياسية والإعلامية.
وبالنسبة للكثيرين في الداخل والخارج أن مثال الثورة التونسية يثير الشكوك حول مستقبل الديمقراطية في الشمال الإفريقية عموماً، فلم يعد نجاح الثورة كافياً بل أيضاً وجود مؤسسات سياسية قادرة على تأمين العمل بالديمقراطية دون أن تزاح البلاد نحو استبداد جديد، أو فوضى يصعب ضبطها.
بقلم نضال الخضري
مأساة في تونس: انهيار سور مدرسي يودي بحياة 3 تلاميذ