15 مايو 2025

صدمة في المشهد الدبلوماسي والإنساني العالمي بحل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وذلك في تأكيده على سياسة البيت الأبيض بأن “أمريكا أولاً”، وعلى طموحه لإعادة توجيه استراتيجيات المساعدات الخارجية الأمريكية.

كانت ليبيا قبل عام 2011 قوة مالية إقليمية، حيث استخدمت ثروتها النفطية الهائلة لدعم مشاريع التنمية في جميع أنحاء إفريقيا والشرق الأوسط، لكن انزلاق البلاد إلى الصراع عكس هذا المسار، وجعلها تعتمد بشكل متزايد على المساعدات الدولية، وذلك بعد أن كانت واحدة من أغنى دول إفريقيا بفضل احتياطياتها الضخمة من النفط، ووصل إجمالي إيراداتها من النفط إلى 60  مليار دولار سنوياً قبل عام 2011، وكان لها دورها الإقليمي الفاعل عبر تمويل عدة مشاريع تنموية في إفريقيا والعالم العربي، منها تمويل بناء سد أم درمان في السودان، كما قدمت ليبيا دعماً مالياً لحركات التحرر في إفريقيا وأسست صندوق ليبيا للاستثمار في إفريقيا.

الانهيار السياسي والأمني:

أسقط التدخل العسكري لحلف الناتو نظام القذافي عام 2011 والتدخل الدولي ما خلف فراغاً سياسياً وأمنياً، وتحول الوضع إلى ساحة صراع بين فصائل مسلحة متعددة، ومنذ 2014 انقسمت إلى حكومتين في الشرق والغرب الليبي، وسيطرت جماعات مسلحة على العديد من المنشآت النفطية والموانئ، وأدت إلى تعطيل الاقتصاد الوطني.

نتيجة الوضع الأمني انخفض الإنتاج النفطي من 1.6  مليون برميل يومياً (في 2010) إلى أقل من 100  ألف برميل يومياً خلال ذروة الصراع في 2020، بسبب إغلاق الحقول والموانئ، وفقد الدينار الليبي نحو 90%  من قيمته منذ عام 2014، مع تسجيل تضخم قدره 30%، وانخفضت الاحتياطيات الأجنبية من 150  مليار دولار (في 2010) إلى70  مليار دولار (في 2023)، وفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي.

أدت الحالة الأمنية إلى نزوح حوالي 400  ألف ليبي داخل البلاد، بحسب بيانات الأمم المتحدة، وتدهورت قطاعات الصحة والتعليم، مع نقص حاد في الأدوية والكهرباء، وأصبحت ليبيا نقطة عبور رئيسية للمهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، ما زاد من الضغط على الموارد المحدودة، كما فرضت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على العديد من المؤسسات الليبية، بما في ذلك مصرف ليبيا المركزي، ما أثر سلباً على التحويلات المالية، وبدأت ليبيا تعتمد بشكل متزايد على المساعدات الدولية في عدة مجالات:

المساعدات الدولية

تلقت ليبيا بعد الأزمة دعماً من منظمات دولية مثل برنامج الأغذية العالمي الذي وزع الغذاء على نحو 250 ألف شخص سنوياً والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لدعم النازحين والمهاجرين، ومنظمات مثل أطباء بلا حدود لمواجهة انهيار القطاع الصحي، وحصلت ليبيا على قروض من صندوق النقد الدولي لتعويض عجز الموازنة، وقدمت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا (UNSMIL) الدعم في إعادة بناء المؤسسات الحكومية، وخصصت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وهي الميسر الرئيسي للمساعدات الأميركية، ما يقرب من مليار دولار أميركي لتمويل ليبيا حتى عام 2023.

برامج لتوجيه الرأي العام

يتهم تقرير صادر عن “ميدل إيست مونيتور” الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بتمويل مبادرات تتجاوز الإغاثة الإنسانية إلى عالم “الهندسة السياسية”، وتم توجيه الكثير من هذه المساعدات المالية نحو مشاريع غير شفافة، بعضها أثار مخاوف أخلاقية وسياسية كبيرة، ولعبت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية دوراً خطيراً في التعامل مع مسألة الاستقرار السياسي والتأثير الإعلامي والحكم.

ومن بين هذه المشاريع برنامج “المشاركة مع الناخبين من أجل التمثيل العادل”، الذي يهدف إلى تعزيز المشاركة الديمقراطية في ليبيا، حيث لعب هذا البرنامج في إعادة ترتيب توجيه الرأي العام والناخبين عبر تدخل مباشر في كافة التحركات السياسية الليبية لتعزيز الديمقراطية، ومثل صورة لترتيب المشهد السياسي الليبي بشكل يتوافق مع المصالح الأمريكية وسياسة واشنطن في ليبيا.

وهناك برنامج آخر لا يقل خطورة يرتبط بتصنيف الإعلام الليبي ورسم صورة له داخل المتلقي، وهو “نزاهة وسائل الإعلام ومرونتها ودعمها وتعلمها” (MIRSAL)، الذي يهدف إلى تعزيز “وسائل الإعلام المستقلة”، وفي حين تم تأطيره كجهد لتعزيز نزاهة الصحافة، فإن هذه البرامج مصممة استراتيجياً لتشكيل الرأي العام لصالح الفصائل السياسية المتحالفة مع الولايات المتحدة في ليبيا، وأدت عملية نشر نفقات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إلى إيضاح المخاوف من استخدام الأموال الأميركية في مشاريع تحمل معها خرقاً سياسياً؛ يؤدي إلى تأجيج عدم الاستقرار بدلاً من تعزيز التقدم.

من المساعدات الإنسانية إلى النفوذ السياسي

عملياً تعاملت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في ليبيا مع مسائل سياسية إضافية، وتجاوزت مسائل الترويج للإعلام والديمقراطية، فخصصت أموالاً لدعم الائتلافات الحكومية الهشة التي تضم فايز السراج وعبد الحميد الدبيبة، ما ضمن فعلياً استمرارهما السياسي، ورغم أن هذه المساعدات تم توجيهها ظاهرياً نحو تعزيز الحكم وتنمية المجتمع المدني، إلا أن الكثير منها لم يعلن عنه، وتم استخدامه كـ”مال سياسي” لمساعدة حلفاء الولايات المتحدة في ليبيا.

إضافة إلى ذلك كان الإنفاق على “المنظمات غير الحكومية” العاملة في ليبيا سرياً لأبعد الحدود، وأدى الافتقار إلى الشفافية إلى تغذية التكهنات بأن هذه الأموال تم توجيهها إلى مشاريع تخدم أهداف السياسة الخارجية وليس الاحتياجات الإنسانية، وحسب ما كشفت عنه تقارير عن إنفاق مشكوك فيه للوكالة الأميركية للتنمية الدولية في أماكن أخرى، هناك ما يدعو إلى الشك في أن ليبيا شهدت سوء تخصيص مماثل للموارد، ما أدى إلى ترسيخ الفساد والتشرذم السياسي.

التأثير الأوسع لإغلاق ترامب للوكالة الأميركية للتنمية الدولية

يمثل حل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تحولاً جذرياً في السياسة الخارجية الأميركية، فالرئيس ترامب لم يتوقف عن انتقاد برامج المساعدات الدولية باعتبارها استنزافاً لدافعي الضرائب الأميركيين، ووصفها في كثير من الأحيان بأنها غير فعّالة وفاسدة، وسعت إدارته باستمرار إلى تقليص الالتزامات المالية الأميركية تجاه برامج التنمية العالمية، وخاصة تلك التي يُنظر إليها على أنها تفيد الدول المعادية.

ومع تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، تم تجميد 44 مليار دولار من التمويل، الأمر الذي أثر على عشرات الدول التي تعتمد على المساعدات الإنسانية الأميركية، وفي العالم العربي، اعتمدت دول مثل لبنان والسودان واليمن لفترات طويلة على المساعدات الأميركية لدعم الخدمات الأساسية في الرعاية الصحية والتعليم ودعم اللاجئين، والانسحاب المفاجئ لهذه الأموال يهدد بتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وخاصة في الدول التي تعاني بالفعل من الاضطرابات السياسية.

بالنسبة لليبيا، فإن نهاية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تحمل معها حالتين؛ فهي تقضي على قناة رئيسية للتدخل الأجنبي التي ينظر إليها الكثير من الليبيين على أنها تؤثر على التوازن السياسي في ليبيا، ومن ناحية أخرى، حسب بعض المنتقدين فإنها تحرم منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية من الدعم المالي الذي تشتد الحاجة إليه، ما يؤدي إلى تعميق تحديات الحكم وعدم الاستقرار الاقتصادي.

من يملأ الفراغ؟

مع تقليص الولايات المتحدة لالتزاماتها بالمساعدات، من المرجح أن تتدخل قوى عالمية أخرى، فدول مثل روسيا والصين والاتحاد الأوروبي، أعربت عن اهتمام متزايد بتشكيل مستقبل ليبيا، ففي حين وسعت موسكو من اتفاقياتها التنموية داخل المؤسسات الليبية، فإن الصين سعت إلى الاستثمارات الاقتصادية في البنية التحتية الليبية كجزء من مبادرة الحزام والطريق، في المقابل فإن الاتحاد الأوروبي، وخاصة إيطاليا وفرنسا، منخرطين بشكل عميق في قطاع الطاقة في ليبيا.

وعلى عكس الصين وروسيا فإن النهج الأوروبي يتعرض لانتقادات شديدة بسبب إعطاء الأولوية لأمن الحدود على الاستقرار السياسي والاقتصادي الحقيقي، وفي الوقت نفسه، رسخت تركيا موقعها عسكرياً في غرب ليبيا، حيث قدمت الدعم لحكومة الدبيبة منتهية الولاية واستفادت من امتيازات عسكرية منحتها حكومة طرابلس لأنقرة.

ومع انسحاب الولايات المتحدة، من المرجح أن يصبح المشهد الجيوسياسي في ليبيا أكثر تفتتاً خصوصاً مع سعي الأطراف في الغرب الليبي في البحث عن تمويل إضافي، وتنافس الجهات الفاعلة الغربية المتنافسة على النفوذ لتوسيع تواجدها، وهذا الأمر سيشجع الفصائل والميليشيات في الغرب الليبي على استغلال الوضع لتحقيق مكاسبها الخاصة.

هل تستطيع ليبيا استعادة مكانتها كدولة مانحة؟

رغم أن ليبيا تملك ثروات هائلة من النفط و الغاز و الذهب، إلا أن حوالي 30%  من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وذلك وفقا لتقرير البنك الدولي لعام 2023، هذا التفاوت بين الثروة والفقــر يجعل ليبيا حالة فريدة وفائقة التعقيد في السياق الدولي.

ولكي تستعيد ليبيا مكانتها كدولة مانحة، يتعين عليها معالجة العديد من التحديات الرئيسية، ابتداء من إعادة التوحيد السياسي؛ عبر إنهاء التنافس المستمر والدخول في انتخابات ذات مصداقية وحوكمة شاملة، إضافة إلى ذلك فإن الاعتماد المفرط على عائدات النفط يشكل عائقاً يجب التعامل معه لأنه يجعلها عرضة لتقلبات الأسعار العالمية، ويمكن للاستثمار في قطاعات بديلة مثل الطاقة المتجددة والزراعة أن يوفر المرونة الاقتصادية.

يمثل قرار ترامب بتفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية نقطة تحول مهمة في السياسة الخارجية الأمريكية، وفي حين يشير ذلك إلى نهاية ما يعتبره البعض تدخلاً أمريكياً غير مبرر، فإنه يترك أيضاً دولاً في وضع محفوف بالمخاطر، وذلك مع انقطاع التمويل عن منظمات المجتمع المدني، يبقى سؤال أساسي: هل ستغتنم ليبيا هذه الفرصة لاستعادة سيادتها، أم ستقع في فخ التبعية الجيوسياسية بشكل أعمق؟ تكمن الإجابة في أيدي القادة الليبيين وقدرتهم على رسم مسار خالٍ من التلاعب الخارجي والخلافات الداخلية.

بقلم نضال الخضري

“أطباء بلا حدود” تطالب بتعليق الدعم المالي لخفر السواحل الليبي

اقرأ المزيد