29 يونيو 2025

يعيش غرب ليبيا مشهداً سريالياً ويعكس عمق التشوه في بنية الدولة، فالعاصمة طرابلس ومحيطها تعيش حالة احتقان أمني عسكري بين جماعات مسلحة تابعة رسمياً للدولة، تتلقى رواتبها من وزارة الدفاع أو الداخلية، وتشتبك فيما بينها بأسلحة الدولة وعلى أرض الدولة.

في مواجهة هذا الانفلات، يعيد السكان مشهد “الكتائب الأهلية” واللجان الشعبية إلى الواجهة، وذلك في تكرار لمظاهر ما بعد سقوط نظام القذافي، ولكن ضمن مفارقة مختلفة تماما فالمواطن الليبي مضطر لتشكيل جماعة مسلحة للنجاة بنفسه من “القوات” التي تموّلها خزانة الدولة لحمايته، وضمن هذا المشهد فإن القانون وهيبة الدولة يضيعان وسط عدم القدرة على كبح المجموعات المسلحة التي تكتسب الشرعية من الاعتراف الرسمي بوجودها، لكنها في نفس الوقت تتصرف كميليشيات مستقلة لا تخضع لأي سلطة.

مشهد الحرب

ظهرت آخر فصول التصعيد في حشود عسكرية تقودها “القوة المشتركة” بقيادة عمر بوغدادة، وهو مدعوم من قبل حكومة عبد الحميد الدبيبة، وانتشرت التجهيزات العسكرية الميدانية بين تاجوراء والقربولي، وتم إقامة مستشفى ميداني وإعداد غرف عمليات متنقلة، وكل هذه المؤشرات توحي بنية صدام واضحة، خاصة مع تواتر الحديث عن سعي بوغدادة للضغط على عبد الرؤوف كارة (قائد جهاز الردع)، لتسليمه سجن “الجديدة” والمخابرات التابعة له.

وتوضح التقارير إلى أن التوتر الحاصل جاء نتيجة الفشل في التوصل إلى “صفقة” لتقاسم النفوذ، فاستعراض القوة هو بدافع الترهيب وصولاً إلى هجوم عسكري على معيتيقة التي تمثل أكثر المناطق حساسية في طرابلس، وتقع تحت سيطرة جهاز الردع، والمفارقة الكبرى هنا ليست في احتمالية القتال فقط، بل في أن جميع الأطراف المتصارعة تنتمي بالاسم على الأقل إلى الدولة، وتحصل على رواتب من المال العام، سواء عبر وزارة الدفاع أو من خلال بنود “الدعم الأمني” التي تضخمت كثيراً خلال السنوات الأخيرة، فجهاز دعم الاستقرار وجهاز الردع، والقوة المشتركة واللواء 444، وسرايا مصراتة، كلها كيانات محسوبة على الدولة، لكنها في الواقع لا تخضع لها، والحكومة وفق هذا الواقع تدفع رواتب ميليشيات تتقاتل فيما بينها وتنهب الدولة التي تمثلها.

في خضم هذا الواقع، لجأ سكان سوق الجمعة ومناطق أخرى إلى إعادة تشكيل مجالس عسكرية ولجان شعبية، تماما كما فعلوا في سنوات الفوضى الكبرى، والهدف من هذه الترتيبات حماية الأحياء من الميليشيات، فالنتيجة لصراع الأجنحة العسكرية المدعومة من قبل الدولة هي تحول المجتمع لتأسيس مليشيات لحماية أنفسهم من مليشيات الدولة، وهو ما كرس واقعاً من زيادة المجموعات المسلحة ومن إمكانية الصدام ليس فقط ضمن الأجهزة العسكرية التابعة للدولة، إنما مع المجتمع الذي يحاول حماية نفسه من الصراعات بين مراكز النفوذ داخل حكومة طرابلس.

فوضى الميليشيات: نفوذ بلا حدود

تحوّلت الميليشيات في الغرب الليبي في ظل غياب أي قوة سياسية موحدة إلى سلطات “الأمر الواقع”، فبعضها يدير السجون، ويملك طائرات مسيّرة، ويتاجر بالوقود والمهاجرين، ويسيطر على مداخل المدن والموانئ، فجهاز الردع يسيطر على سجن داعش ومرافق حساسة شرق العاصمة، بينما يتمدد جهاز دعم الاستقرار في وسط ومحيط العاصمة، أما سرايا مصراتة، بما تمتلكه من آلاف المقاتلين والدبابات، فتحشد باتجاه طرابلس، والاحتكاكات بين هذه الأطراف ليست هذه مجرد صراعات مناطقية أو أمنية؛ بل صراعات نفوذ ومال وسلطة تُدار بأدوات الدولة وشرعيتها الشكلية.

وتحذّر تقارير أمنية وسياسية من أن أي شرارة صغيرة قادرة على إشعال نزاع مفتوح، خاصة مع قرب تموضع قوات مصراتة على مشارف العاصمة، ولا تقتصر المخاوف على القتال، بل تمتد إلى تعطيل الاستحقاق الانتخابي، وتكرار سيناريوهات العنف المتبادل، حيث تصرح بعض الميليشيات علنا أنها لن تقبل بأي نتائج انتخابية لا ترضيها، ما يجعل من الانتخابات إن جرت مناسبة محتملة للانفجار لا للحل.

وحمّل تقرير أممي حديث الميليشيات مسؤولية انتهاكات جسيمة، من بينها القتل والاحتجاز التعسفي والتعذيب، وفضح هيمنتها على مؤسسات الدولة، بما فيها المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، ورغم وعود باتخاذ إجراءات ضد قادة هذه الجماعات، لا يزال الكثير من الليبيين يشككون في جدية المجتمع الدولي، فمعارك الميليشيات ليست فقط حول طرابلس ومصراتة، بل أيضا حول من يملك “ورقة” أقوى في مفاوضات الحل السياسي القادم، ففي بلد تتداخل فيه الأجندات الدولية من تركيا إلى إيطاليا باتت هذه الجماعات أدوات في معركة النفوذ الإقليمي، وكل جماعة تسيطر على منشأة أو مرفق حيوي تصبح طرفاً لا يمكن تجاوزه في أي تسوية محتملة.

الأفق المسدود… والحل الغائب

الانهيار الأمني في غرب ليبيا لا يمكن حله من خلال اتفاقات مؤقتة أو إعادة تقاسم الغنائم، فهو يتطلب حلاً صعباً يتطلب تغير بنية التفكير السياسي في الغرب الليبي، وتحول في بنية الدولة لتستطيع تفكيك أو دمج فعلي للمليشيات داخل مؤسسات الدولة، وليس مجرد دمج شكلي يكرس وجودها كمراكز قوى لها امتداداتها داخل الحكومة، مع استمرار ولاءاتهم المناطقية، وتحقيق مصالحة مجتمعية تقلّص من النزعة الانتقامية بين المدن، وممارسة ضغط دولي حقيقي على قادة المليشيات، لا الاقتصار على السياسيين، وأخيرا إجراء انتخابات نزيهة قائمة على ضمانات أمنية، لا تحت رحمة “حاملي السلاح”.

الغرب الليبي يعيش حالة شلل أمني وسياسي كامل، فالجماعات المسلحة تمسك بزمام السلطة الفعلية، تحت مظلة الدولة، لكن دون أدنى التزام بسلطتها، ووسط هذا الفراغ يعود المجتمع مرة أخرى إلى أدواته البدائية للدفاع عن نفسه، في تكرار مرعب لتجربة انهيار الدولة بعد 2011، وإذا لم يُكسر هذا النمط، فإن ما نعيشه ليبيا لن يكون أزمة مؤقتة، بل إعادة إنتاج دائمة لدولة داخل الدولة… بلا دولة.

بقلم نضال الخضري

حفتر يلتقي قائد نائب قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا

اقرأ المزيد