14 مايو 2025

قدم اغتيال العميد علي رياني فجر يوم 27 أبريل 2025 مشهداً مرعباً لواقع أمني ليبي تتداخل فيه مصالح متضاربة، فالعملية رسمت صورة تمتزج فيها الفوضى مع عمليات التصفية السياسية المنتشرة في الغرب الليبي.

نبأ الاغتيال أعاد إلى الأذهان مزيج الرعب والغضب الشعبي من الفوضى الأمنية التي تنهش الدولة الليبية. فاستُهداف العميد علي رمضان الرياني، أحد أبرز ضباط هندسة الصواريخ في ليبيا، لم يكن حدثاً عادياً، والرواية الرسمية التي تتحدث عن جريمة سطو مسلح ليست مقنعة، حيث ذهبت روايات أخرى إلى أنها عملية اختطاف فاشلة كان الهدف منها تسليمه إلى الولايات المتحدة، ومع تصاعد الجدل حول هذا الأمر، أصبح السؤال الأكثر إلحاحاً: هل كان اغتيال الرياني جريمة جنائية عادية، أم تنفيذاً لعملية ذات طابع استخباراتي معقّد؟

سجل عسكري يثير الأسئلة

سيرة العميد علي رمضان الرياني أثارت الشكوك في الرواية الرسمية، فهو ضابط ليبي تخرّج في كلية الهندسة العسكرية بين عامي 1995 و1997، تخصص في تطوير تكنولوجيا الصواريخ، وكان قائد كتيبة حطين لصواريخ سكود عام 1986، والنقطة الأساسية في تاريخه العسكري هي مشاركته في عملية قصف القاعدة الأمريكية في جزيرة لامبيدوزا الإيطالية.

السجل العسكري لـ”الرباني” يثير الشكوك حول حادثة مقتله، فاسمه كان على قائمة المتابعة الغربية، وذلك في ظل عمليات التصفية التي تطال رموز النظام الليبي السابق منذ عام 2011، فهو ضابط كان له تأثيره القوي على المستوى التقني في تطوير المنظومة الدفاعية الليبية، وخرج من الخدمة دون أن يكون جزء من المنظومة السياسية التي انتهت برحيل سلطة الرئيس السابق معمر القذافي.

الحادثة بين “سطو” و”عملية مدبرة

الرواية الرسمية الأولية أفادت بأن ثلاثة مسلحين اقتحموا منزل العميد في منطقة خلة الفرجان، بهدف السرقة، حيث سرقوا مجوهرات وهددوا ابنته، ما دفع الرياني إلى مواجهتهم ببندقية  AK103-2، وقتل اثنين منهم، فيما توفي الثالث لاحقاً متأثراً بجراحه.

لكن سرعان ما بدأت الروايات البديلة تتصاعد، مشيرة إلى أن العملية كانت محاولة اختطاف مُمنهجة، خططت لها جهات أمنية متداخلة مع الاستخبارات والداخلية، فالتحقيقات كشفت أن المسلحين الثلاثة، وهم رامي بركة، فيصل الغزاوي، وسيف الزعكة، لهم ارتباطات بمؤسسات رسمية كجهاز المخابرات وإدارة مكافحة الأنشطة الهدامة بوزارة الداخلية.

ما يجعل رواية “الاختطاف لأغراض تسليم خارجي” أكثر من مجرد تكهنات، هو الخلفية العسكرية الحساسة للرياني، حيث ارتبط اسمه بتطوير صواريخ استخدمت في عملية أثارت توتراً كبيراً بين ليبيا والولايات المتحدة، ولا يُستبعد أن يكون مطلب تسليمه تم طرحه ضمن تفاهمات أمنية غير مُعلنة، خصوصاً في ظل سوابق مثل تسليم الضابط السابق أبو عجيلة مسعود إلى واشنطن من حكومة طرابلس، وهو ما أثار موجة استياء واتهامات بـ”التفريط بالسيادة الوطنية”.

السؤال الذي انتشر سريعاً داخل النخب السياسية والرأي العام: هل كانت الجريمة وسيلة غير رسمية لإنهاء ملف غير مرغوب فيه أمريكياً؟ هل أُفشلت عملية الاختطاف بسبب يقظة العميد، فتمّت تصفيته، ثم جرت تغطية الأمر بسيناريو سطو مسلح؟

الردود السياسية وغياب الشفافية

تعددت المواقف الرسمية عقب الحادث، فرئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية عبد الحميد الدبيبة نعى الرياني، ووجه بفتح تحقيق عاجل، فيما سارعت مؤسسة حقوق الإنسان إلى إصدار بيان يُحمّل الأجهزة الأمنية مسؤولية الفشل في الحماية، ونددت بحالة الانفلات الأمني والإفلات من العقاب، أما اللواء 444 والشرطة القضائية، فنفوا أية علاقة بالمهاجمين.

لم تقنع التصريحات الرسمية الشارع الليبي، فكيف لمسلحين معروفين بولائهم لأجهزة أمنية أن ينفذوا عملية بهذه الجرأة، في منطقة تُعد من أكثر المناطق انتشاراً للمقار الأمنية والعسكرية؟ ولماذا لم يتم القبض على أي من المتورطين قبل وقوع الحادثة، إذا كانوا على رادارات الأجهزة الأمنية بالفعل؟ فهذه الحادثة كانت جزء من المشهد في الغرب الليبي الذي لا يعبر عن الفوضى الأمنية فقط، بل أيضا َعن شبكات الجريمة التي تعمل تحت غطاء الأجهزة الأمنية.

مخرجات الأزمة وأبعادها الرمزية

لم يكن العميد علي الرياني ضابطاً تقنياً فقط، بل اكتسب سمة خاصه كونه كان رمزاً من رموز الكفاءة العسكرية الليبية، واستشهاده في هذه الظروف، بحد ذاته، رسالة مزدوجة: فمن جهة كان اغتياله تأكيد على هشاشة الوضع الأمني، ومن جانب آخر جاء كرسالة ترهيب لكل من يحمل ملفات أو ذاكرة عسكرية حساسة.

وكان واضحاً من تشيّعه الذي تحول إلى وقفة احتجاجية ضد تغوّل الميليشيات، أنه يحظى بموقع اعتباري  داخل المجتمع الليبي، فالمحتجون الذي ساروا في جنازته عبروا عن رفضهم لتساهل الدولة مع اختراق المؤسسات الأمنية من قبل “جماعات موازية”، تتقاضى رواتب من الدولة وتعمل لمصالح خارج إطار القانون.

عمليا فإن اغتيال الرياني ليس حادثاً معزولاً، بل يشكل امتداداً لسلسلة اغتيالات غامضة في طرابلس، ويدق ناقوس خطر حقيقي حول عجز الدولة عن حماية كوادرها، أو حتى التحكم في قرارات أمنها الوطني، ففي دولة تمتلك أكثر من 29 مليون قطعة سلاح خارج سيطرة الدولة، وتخضع فيها العاصمة لمعادلة هشّة بين تحالفات ميليشيوية، يبدو أن كل من يملك معلومات حساسة، أو يمثل رمزية وطنية، معرض للتصفية.

هل ستظهر الحقيقة؟

تتحدث الحكومة حتى الآن عن “تحقيقات شفافة”، بينما يواصل الشارع الليبي طرح أسئلة لا تجد أجوبة، من قتل الرياني؟ هل قُتل لأنه رفض التعاون مع قوة أجنبية؟ أم لأنه كان عبئاً على حسابات إقليمية ودولية؟ وهل من أطراف داخل السلطة الليبية الحالية لديها مصلحة في طيّ صفحة الضباط القدامى؟

ما يحتاجه الليبيون اليوم ليس فقط الكشف عن الجناة، بل مساءلة كل من سمح بانزلاق الأمن إلى هذه الدرجة من الفوضى، حيث أثبتت هذه الجريمة أن مشروع بناء دولة القانون لا يمكن أن ينهض في ظل ازدواجية السلطة، وتواطؤ الأجهزة، وسيطرة منطق الغلبة بدل السيادة، واغتيال علي الرياني لم يهزّ البلاد لأنه حادثة عنف جديدة فقط، بل لأنه شكّل لحظة مؤلمة ف ليبيا لا تزال دولة بلا حارس حقيقي، ورجالها الحقيقيون إما مغيّبون… أو مستهدفون.

بقلم نضال الخضري

بدء فعاليات الملتقى التجاري الليبي التونسي بمدينة بنغازي

اقرأ المزيد