جاء تصريح رجل الأعمال وعضو مجلس النواب الليبي، محمد الرعيض، حول ضرورة رفع الدعم عن الوقود والكهرباء والماء، ليكشف هشاشة المنظومة الاقتصادية وسط الفساد وغياب الثقة بين المواطن والدولة.
فكرة الرعيض ليست جديدة وإلغاء الدعم تم طرحه أكثر من مرة، وهو بالأساس ضمن تفكير رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، عبد الحميد دبيبة، حيث طرح هذا الموضوع في عامي 2023-2024، لكن الفارق اليوم أن نبرة الطرح تغيرت، والمحتوى بقي على حاله: على الفقراء أن يتحملوا عبء الإصلاح.
جاء تصريح الرعيض خلال المنتدى الاقتصادي الليبي ولم يكن مجرد رأي اقتصادي، بل إعلان صريح عن توجّه نخبوي يتجاهل عمق الأزمة الاجتماعية في البلاد، ومشكلة دعوته أنها جاءت من شخصية تعتبر رمزا ً لرأس المال المتشابك مع السلطة، حيث يمتلك الرعيض شركة النسيم إحدى أبرز شركات الصناعات الغذائية في ليبيا.
لم يتأخر رد الشارع الليبي على هذه التصريحات، حيث تم إحراق صور الرعيض في مصراتة، وبدأت مقاطعة شعبية لمنتجات شركته، كما ظهرت حملات من قبل سياسيين وإعلاميين ونشطاء، ليس فقط على أفكاره، بل على ما يمثله من طبقة مترفة تطالب الفقير بالتقشف بينما تقتات على امتيازات الدولة.
الرعيض والازدواجية الاقتصادية
الاستياء العام جاء نتيجة ما وصفته الصحفية إيناس حميداً بـ”النفاق الاقتصادي” للرعيض، فهو يستورد بضائع بسعر الدولار الرسمي المدعوم، ويبيعها للمواطنين بأسعار السوق السوداء، ثم يعود ليحاضر عن “ثقافة الاتكاء على الدولة”، فالمفارقة هنا أن من ينادي بتحرير الاقتصاد هو نفسه المستفيد الأكبر من الدعم الحكومي، وذلك بالاعتماد على سوق غير منضبط ولا يخضع لرقابة حقيقية.
ويمثل هذا النفاق مشهداً خاصاً داخل الحياة الاقتصادية في ليبيا، فرجال الأعمال الليبيين الذين يعتمدون على منظومة الفساد في الغرب، هم وعبر التسهيلات المقدمة تطرح أسئلة حول دورهم الاقتصادي الذي لا يتعدى تحقيق العمولات عن عمليات الاستيراد، ومعظم ما يسمى بـ”شركات” رجال الأعمال، لا يتجاوز مكاتب صغيرة في شقق سكنية، بلا إنتاج حقيقي ولا توظيف، تقتات على الاعتمادات والتسهيلات من الدولة.
من مصراتة إلى عموم ليبيا: الرفض يتسع
موجة الرفض الأخيرة انطلقت من مسقط رأس الرعيض، مدينة مصراتة، التي كانت تاريخياً مركزاً للنشاط التجاري والمجتمعي، و”تجمع ثوار مصراتة” أصدر بياناً يرفض ما سماه “سياسة جوع كلبك يتبعك”، متهماً الرعيض بتضليل الناس والعبث بمعيشتهم، وطالب بمحاسبة من تًسببوا في الأزمة بدلا من تحميل المواطن مسؤولية الانهيار الاقتصادي.
هذا الموقف لم يكن حالة محصورة بل شكل موجة داخل الرأي العام والنخب السياسية، وشكل حالة من النقد الجماعي شملت السياسيين مثل جاب الله الشيباني، الذي أشار إلى أن ما يقترحه الرعيض لا يمكن تطبيقه إلا في “دولة مستقرة”، واعتبر أن الظروف الحالية من تضخم وتدهور القوة الشرائية وغياب الرؤية لاقتصادية؛ لا تسمح بأي نوع من الإجراءات التي تمس حياة المواطن اليومية.
ودخل أيضاً رجال الدين على الجدل الدائر بشأن تصريحات العريض لرفع الدعم، حيث شنّ خطيب مسجد نابي بطرابلس، عبد الرزاق مشيرب، هجوماً على من يروجون لمقاطعة منتجات النسيم، واصفاً ما تقوم به بعض الأسواق بـ”العهر”، وهو ما أضاف مزيداً من الجدل، وكشف عن انقسام حتى في لغة الخطاب الديني بشأن هذه القضية.
الدبيبة والطرح البديل
لم يبتعد عبد الحميد الدبيبة كثيراً عن هذا الطرح ذاته، فهو سبق أن اقترح العام الماضي استبدال دعم الوقود بمنح مالية مباشرة أو نظام بطاقات، لكن رد الفعل وقتها كان مشابهاً، والسبب عدم الثقة بمؤسسات الحكومة، أما عميد بلدية تاجوراء السابق، حسين بن عطية، فقدم طرحاً أكثر وضوحاً يتم عبر رفع الدعم ولكن بشرط وجود حكومة نظيفة لا تسرق النفط والاعتمادات”، وهذا الأمر يوضح أن المشكلة في ليبيا ليست في رفع الدعم بل في من يطبقه، وكيفية التعامل مع هذا الموضوع، فالتحول من دعم مباشر إلى دعم نقدي، أو إلى تحرير الأسعار، يتطلب بيئة قانونية شفافة، ومؤسسات رقابية قوية، وقبل كل شيء، قيادة تضع مصلحة المواطن في الصدارة.
عمليا لا يختلف كثير من الاقتصاديين على أن نظام الدعم في ليبيا مشوّه ويهدر المليارات، وجزء كبير من الوقود المدعوم يتم تهريبه إلى دول الجوار، والمياه والكهرباء تعاني من البنية المتهالكة والتوزيع غير العادل، والإجماع موجود أيضاً على أن البديل يجب أن يكون عادلا ًوشفافاً، فبدون عدالة اجتماعية ستتحول أي محاولة إصلاح الدعم إلى أداة لقمع الفقراء وإثراء الفاسدين.
من جانيه صندوق النقد الدولي دعا ليبيا بالفعل إلى مراجعة تدريجية للدعم، وهو موقف متوقع من مؤسسة ذات توجهات تقشفية، لكن في الحالة الليبية، المشكلة ليست في الدعم فقط، بل في كامل الهيكل الاقتصادي المشلول، من تضخم بلا كوابح إلى بطالة متفشية، مع غياب أي خطة شاملة لإعادة التوزيع العادل للثروة.
ما أثاره الرعيض، وإن لم يكن جديداً في مضمونه، إلا أنه سلط الضوء مجدداً على فجوة تتسع بين السلطة والمجتمع، فالخطاب النخبوي الذي يحمل المواطن مسؤولية الأزمة، دون أن يعالج الفساد وسوء الإدارة، يزيد من شعور الإحباط الشعبي، ويهدد بتفجر موجات احتجاج جديدة في بلد لم يهدأ يوما منذ عقد، ولا يمكن الحديث عن إصلاح اقتصادي في ليبيا، دون إصلاح سياسي وإداري شامل، وأي إجراء تقشفي في هذا السياق، سيُفهم وكأن الدولة تطالب الفقراء بدفع ثمن أخطاء الأغنياء.
بقلم مازن بلال
شركات مصرية كبرى تشارك في إعادة إعمار ليبيا